الاثنين، 21 مايو 2012

وستبقى مصر للمصريين


ينجدل تاريخ ثورة الخامس والعشرين من يناير منذ بدايتها وحتى الأن حول بؤرة أساسية تتصف بالشتات وتبيان حال المصريين وشرذمتهم ، حيث جاءت البداية متماسكة ، فحققت ما يشبه المعجزة فى أيام معدودات .. كان أمل التغيير مفقودا لسنوات طال مداها أجيالا .. ظل يراود المصريين ويداعب أحلامهم ، الحلم أخيرا تحقق وجاء بالتغيير .. تحقق الحلم على أكتاف الشهداء والمصابين الذين هانت عليهم حياتهم فى سبيل الوطن فقدموها ثمنا لوضع حد لمعاناته وما واجهه من مشكلات تعمقت واستفحلت وجابت مصر طولا وعرضا ، مشكلات أثقلت كاهل مصر ووهنت بتطلعاتها نحو مسيرة التقدم لمستقبل أفضل .



لقد كان انحياز الجيش إلى جانب الشعب فى بادئ الأمر هو العامل الحاسم فى إنجاح الثورة وإعلاء مبادئها غير المعلنة إلا من غضبة المطالبة برحيل النظام الحاكم وعاشت مصر أياما عصيبة حتى لاحت فى الأفق تباشير النصر بقرار التنحى وضجت الدنيا فرحا بنشوة النصر ، الثورة لازالت فى الميدان .. الثورة نجحت بلا قائد ، وبلا أهداف محددة ، الوضع ينذر ببدايات اختلاف فى الرؤى ثم مالبثت أن تباينت الاتجاهات حول مطالب الثوار ومبادئهم الأساسية فكان تدخل التيارات المختلفة والأحزاب المقوضة وشباب مختلف الفكر والأهواء أطلق على نفسه نشطاء سياسيين وشباب ائتلاف الثورة والواقع كان يقول غير ذلك لأنه لو كان هناك ائتلاف لاجتمعوا على كلمة سواء ولتحققت الأهداف التى قامت الثورة من أجلها وماكانت للصراعات أن تضرم وتشعل التنافسات التى تمحورت سريعا وكونت بؤرة الفتن التى مالبثت أن استشرت فى تحد كبير لكافة القوى المصرية على اختلافها من جانب ، وبينها وبين المؤسسة العسكرية الموكول إليها حكم البلاد من جانب أخر ، بيد أن تعتيم الموقف والتراخى من جانب المجلس العسكرى فى تنفيذ الخطوط العريضة للمبادئ الأساسية التى طالب بها الثوار وأتفق عليها أخيرا على مدى الشهور المتتالية والتى من أهمها على الإطلاق سرعة انتهاء الفترة الانتقالية لتسليم السلطة من المجلس العسكرى لحكومة مدنية منتخبة ، كان سببا مباشرا فى توالى المليونيات المجتمعة فى الميادين .. فى تظاهرات ضمت كل الأطياف من جماهير شعب مصر وليست بعض هذه التيارات فحسب ، حيث استطاعت الثورة أن تؤلف بينها شكلا من حيث إجماعهم على كراهية حكم تلك الطبقة التى عاثت فى البلاد فسادا وتخريبا ، وانفردت بالسلطة واتخاذ القرار وأهدرت الثروات ونشرت المفاسد مما ساعد على صعوبة ظروف الحياة فى ظل غياب العدل الاجتماعى وجمود المشاركة المجتمعية ولاسيما السياسية منها وإضعاف الأحزاب وتوجيه اقتصاد البلد لمصلحة فئة محدودة من رجال الاعمال الذين عمدوا على التفريط فى الأصول وتبديدها ، وعطلت عمل السلطتين التشريعية والقضائية فكانت القوانين الرثة المرقعة فى غيبة الآليات الرقابية ، وعدم الالتزام بأحكام القضاء ، فضلا عن الاهمال الجسيم الذى تكبدته القطاعات الحيوية فى الدولة : الصناعية والزراعية والتجارية . ولكن فكرا لم يكن كذلك فبالرغم من هذه المكاسب العديدة التى تحققت لم تستطع بلورة أهداف محددة قابلة للتطويع ولها آلية للتنفيذ ، ساعد على ذلك ضبابية موقف المجلس العسكرى فى حياديته فى التعامل مع كل هذه الطبقات رغم إصراره على التأكيد بالالتزام بها فى كل مناسبة بداع ودون داع ، مما أثار حفيظة بعض الشكوك بأن المجلس العسكرى سيظل على انحيازه للقوى الثورية ، باستناد أنه يمثل جزءا من النخبة الحاكمة التى طالبت الثورة بعزلهم ، إذ كيف يمكن أن يتنكر بين يوم وليلة لمن كان ينتمى إليهم ؟!. ولكن بعد انقضاء مايزيد على سنة منذ قيام ثورة يناير كان كافيا لإدراك أن هذا لم يكن شكا فى الواقع بل حقيقة مؤكدة .. حقيقة تقول لو كانت هناك شفافية لأمكن للمجلس العسكرى الإسراع بتشكيل مجلس رئاسى يستفتى عليه الشعب لفترة انتقالية ولفترة محددة ، يتم خلالها تشكيل الجمعية التأسيسية لعمل دستور منزه عن كل التيارات التى بدت متناحرة ، بعدها يتم تشكيل كل مؤسسات الدولة محققة مبدأ المساواة والعدل واحترام الشرعية وتطبيق القانون فتبدأ باختيار رئيس للدولة وفقا للدستور الجديد الذى سيأتى باستفتاء شعبى عام ، حقيقة أكدتها الأيام بتوالى مسلسل الاشتباكات واستخدام العنف بمنتهى القسوة فى قتل الأبرياء ، بدءا من أحداث "أطفيح" و"إمبابة" مرورا بأحداث "مسرح البالون" و"ماسبيرو" ، وصولا لأحداث شارع "محمد محمود" والأحداث الدامية أمام مجلس الوزراء وحرق المجمع العلمى عمدا ، ثم أسوأ كارثة فى تاريخ الرياضة المصرية والتى أعقبت مباراة ناديى الأهلى والمصرى باستاد بورسعيد وقتل أربعة وسبعين شهيدا من التراس النادى الأهلى فى أقل من خمس دقائق والتى تجدد على أثرها أحداث وزارة الداخلية من جديد ووقوع المزيد والمزيد من الضحايا ، وزد على ذلك شكل المحاكمات الوهمية للرئيس المخلوع  والملابسات التى واكبتها والتدليس الذى شابه إجراءاتها ، والإمعان فى الاستهتار بمشاعر الجماهير ولاسيما أهالى الشهداء والمصابين ، ومازالت الفجوة تتسع وتتسع كل يوم وأصبح اختلاف التوجهات والرؤى سمة اللحظة ، فجاء الصدام علنا فى أحداث العباسية الدامية بين التيار الإسلامى من جهة وبين المجلس العسكرى من جهة أخرى ، مما يعطى انطباعا كافيا لاكتشاف أن المجلس العسكرى لا يمكن أن يكون محايدا، ولا التيار الإسلامى ومعهم من حازوا على ثقة الشعب أيضا أن يكونوا على مستوى المسئولية ، واكتشاف أن مصر لو كانت فى حاجة ماسة إلى إنقاذ، فإنه لا يمكن أن يتم لا عن طريق هذه النخبة المتأصلة من نفس الطبقة المنتمية لفسداء مصر وطغاها ولا عن طريق ممن ركبوا الثورة وظهرت نياتهم فى استئثارهم للسلطة دون تقديم حلول ناجعة .

والأمر كذلك أيضا بالنسبة للمتظاهرين الذين اختلفت انتماءاتهم بين أحزاب شتى كل ذلك كان له تأثيره المباشر عما يجرى فى الشارع المصرى من تنافس بدأ منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية وما صاحب ذلك من حملات إعلامية منظمة وشرسة ، جعلت الأمور مثل النار الراكضة تحت الرماد تطل بألسنتها بين الحين والحين فتحرق كل ماحولها ، فمتى كانت الأمور تهدأ نسبيا أتى إلينا حدث يقضى على الشعور بالأمان والاحساس بالرضا للغالبية الصامتة من الشعب المصرى.


والفكرة هنا أنه مهما كان  توصيف ما يشكو منه الشأن المصرى وما نريد تغييره بات أمرا مهما، إلا أن الأهم ـــ وبعد ضياع كل هذا الوقت المهدر التى ترتب عليه أثار اقتصادية منهارة وعميقة أدت إلى  وجود عشرة ملايين عطالة ، وهروب الاستثمارات الأجنبية ، وتوقف السياحة وتراجع الاحتياطى النقدى إلى أكثر من ترليون دولار ديون داخلية وخارجية ـــ هو الاتفاق على وضع يصل بمصر بر الأمان وعلى نحو يرضى ما تريده كل التيارات الموجودة ومتوافقا مع نبض جماهير شعب مصر الصامتة والمؤثرة فى التحول الديمقراطى الذى ظهر جليا فى انتخابات مجلس الشعب بمراحلها الثلاث هذا العام . وكلما كانت هناك محاولات لتشخيص ما يريده الشعب وبلورته إلى فكر ، تتولد فجوة عميقة بين اختلالات ألية تنفيذ هذا الفكر نتيجة تداعيات الموقف  والوصول به إلى نتائج مرضية ، ربما كان مرجعيته يعود لاتساع مساحة عدم الثقة بين كل الأطراف ، وتعدد المراكز الاقتصادية للمشاركين فى الثورة، وتعدد صور القهر الاجتماعى والسياسى وتهميشهم الذى وصل ذروته فى انتخابات مجلس الشعب  لعام 2010، وسوء نية بعض القوى ، والتحالفات الخفية لإضعاف البعض الأخر ، وتباين الفكر المنهجى للأحزاب الوليدة وعدم مصادفتها حلول سريعة تعطيها مصداقية لدى الشارع المصرى ، وجود أجندات أجنبية استطاعت أن تجذب عددا غير قليل من حركات الشباب ، وغيرها وغيرها من أسباب أعتقد أنها  صعبت من مهمة بلورة أهداف محددة لهم جميعا ، مما أدى كل هذا إلى اهتزاز الثقة  بعنف بين الجيش والشعب متمثلا فى برلمانه الذى بدا هو الأخر مترهلا ومفتقدا لأبسط آليات العمل البرلمانى لغياب الخبرة ووجود خلل فى بقية مؤسسات الدولة مما انعكس أثره على إحداث نوع من التوازن المرن القائم على الصالح العام  ، ناهيك على اختلاف أيدلوجيات ومذاهب فكر المصريين أنفسهم وتداخلها فى تحديد ماهية الحرية الثورية واختلاطها بمفهوم الديمقراطية حتى فى أبسط تعاريفها : التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثرية الذى يؤكد على حماية حقوق الأفراد والأقليات ، كل ذلك انعكس على سير الثورة التى بدأت سلمية ثم بعد ذلك مالت للعنف وبشدة على فترات ، فبالرغم من نجاح أولى خطواتها وما أحدثته من تغيير في المفاهيم والقيم على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية  إلا أن وجهات النظر اختلفت والاتجاهات تعددت وتباينت ومع توالى الأيام وتداولها لم نلحظ ثمة تغيير سوى مسميات الأشخاص فقط ، ومن هنا يمكن القول أن الذين يتبارون اليوم على رسم مستقبل مصر لا يختلفون عن سابقيهم  إلا في التفاصيل ومتطلبات المرحلة وتحدياتها ، وإن كان منهم من يتهم عموم الشعب المصرى بالسلبية وعدم المشاركة ومتابعة الأحداث بالجلوس خلف الشاشات لدرجة وصفهم بحزب "الكنبة" إلا أن الحقيقة تقول أن الجماهير الغفيرة التى لم تنزح لميدان التحرير ولم تشارك إخوانهم فى التظاهرات بكل مستوياتها هى من قامت بالمشاركة الفاعلة بخروجها ـــ ولأول مرة فى سابقة تستحق الدراسة ـــ لتدلى بأصواتها في الاستفتاء على الإعلان الدستورى ثم انتخابات مجلسى الشعب والشورى الأخيرة واختيار النواب وهى من رفضت العلمانيين المرتبطين بالغرب ونبذت الجماعات والأفراد التى تاجرت بدم الشهداء وانتسبوا للثورة باسم حقوق الإنسان وراحوا يتبارون فى الظهور بمختلف الأجهزة الإعلامية الموجهة والمفتقدة لأبسط الأصول المهنية ، وهم أيضا من يتابعون عن كثب كل مايجرى فى مجلس الشعب يوميا فى انتظار تحقيق رؤية ربما لايستطيع هذا المجلس أن يحقق ولو جزء من طموحاتها . إن عموم الشعب المصرى هم صناع التاريخ وصناع الثورة الحقيقيين ، وهم الذين أختاروا من يريدون ، وإن كان التيار الإسلامى جاء باختيار شعبى حقيقى ، فإن الشعب المصرى لقادر أن يستبدلهم بغيرهم حال فشلهم ، ولكن هذا معقود على مدى استيعابنا للديمقراطية ومفهوم الحرية المقيدة المرتبطة بالعدالة الاجتماعية لا غير المسئولة ومعنى إرادة حرة موقوفة على مبادئ أساسية تحقق دولة العدل وتكون قادرة على تقرير مصير مستقبل مصر ، إذن فالأمر موقوف على إرادة هذا الشعب بهذه الكيفية فى وضع دستور دائم يتواءم مع متطلبات العصر واختيار رئيس يستطيع قيادة مصر لبر الأمان وإن كانت البداية لاتتطلب سوى التنسيق بين جميع القوى الوطنية المنصفة والواعية دون إغفال لدورالشارع المصرى .. صوت الجماهير، بحيث نعلو على كل الصغائر التى أظهرتها التجربة ونسمو فوق خلافاتنا الأساسية والفرعية الناشئة من الاختلالات السياسية الناجمة عن اختلاف الرؤى لكل القوى السياسية باختلاف انتماءاتهم وعن تراكمات موقف المجلس العسكرى فى الشهور الفائتة بعمل منظومة قيمية أخلاقية يتم من خلالها الإتفاق على ميثاق شرف أخلاقى لوضع حد للصراع الدائر بضراوة مابين البرلمان والمجلس العسكرى من جهة وبينه وبين السلطتين التنفيذية والقضائية من جهة أخرى ويتم من خلالها أيضا وضع استراتيجية منهجية على أسس سليمة ومتينة مرتبة وفقا للأولويات والتحديات التى يمكن أن تواجه مصر من مشكلات وما أكثرها .
                           
  مع خالص تحياتى : عصام

                                     القاهرة فى مايو 2012
                                                        



هناك تعليق واحد:

  1. تحياتي لك استاذ عصام تفخر مصر ان بها رجل وطني محب لبلده مثلك سرد كل الوقائع و الاحداث و قال رأيه بصراحة و امانه و صدق ليت كل انسان يقول كلمة حق مثلك كانت بكل تأكيد مصرنا الحبيبة عادت بلد الامن و الامان اتمني ان تنشر كتاباتك ليقرئها الجميع و يستفيد بها اصحاب العقول الخاوية و هم للأسف كثيرون دامك الله لمصر و حقظك و يقدرك دائماً علي نصرة كلمة الحق

    ردحذف