الأحد، 5 يناير 2014

الشباب والتطرف الفكرى




الشباب والتطرف الفكرى
شعرت بمرارة شديدة تجاه مايقره الواقع المصرى الأن حيث حلت به أزمة عنيفة نتاج المناخ الفكرى السائد وماآلت إليه الممارسات التى جاءت تباعا وبقوة كالنار فى الهشيم من جراء جو ثورات أو بالأدق الاحتجاجات شبه الثورية قبل ثورة 30 يونيو وبعدها التى تمثلت فى شكل تموجات عنيفة سواء كانت مفتعلة أو قادها فكر معين موجه انساق وراءه شباب مصر ، للأسف الشباب كانوا هم من اشعلوها والأدهى من ذلك أنهم هم أكثر من أحترقوا بها ولايزالون بسبب حالة غيبة الوعى التى انطلقت منها صيحات التغيير تحت مسميات شتى ، فاختلفت المبادئ المُنادى بها واتخذت اشكالا كثيرة وفقا لطبيعة المرحلة يوما بيوم ، ولذلك جاءت النتائج مخيبة للآمال ، إذ لم نجد العقل المفكر ، أوالقيادة المستحوذة ، ولم يتم الإتفاق على مبادئ ناجزة تحقق العدل والكفاية لإرضاء المواطنين ، فازدادت الفجوة اتساعا بين أجيال الشباب الموجودة باختلاف أعمارهم فى التفكير وسعة الرؤية ، وتباينت تباينا ملحوظا اضطربت معها الحياة السياسية فى مصر كلها حتى طالت أشياء أخرى زعزعة العقيدة عند البعض واردت بالمقدرات لدى الكثيرين منهم ، كما هان على معظمهم المقدسات ، واتسمت بالعنف فى تكدير السلام الاجتماعى وانتشار الفوضى ، واستباحة كل ماهو متعلق بهيبة الدولة والاعتداءات السافرة بتدمير الممتلكات العامة والخاصة وتخريب المنشآت الحيوية . حتى باتوا هم المكون الأساسى لما يحدث الآن من فوضى ، رغم ماحباهم به العلم من تقنيات ، فإن المتابع لما يطُرح الأن على الساحة من أفكار ممن أطلقوا على أنفسهم نشطاء سياسيين وحقوقيين يدرك أنه يُظهر عوارا وأن تيارا عريضا منهم يعانون أزمة أخلاقية قومية وعقائدية شديدة ، وإن كانوا مبدعين على مستوى استخدام الأدوات ووسائل الانتشار، ومهارة التحدث والإقناع والحشد الرقمى الذى بات سهلا جدا بالنسبة لهم فى استخدامهم تقنية العصر للمحتوى الذى فى الغالب مايكون مزورا وردئا ومشوها للحقائق بما ينطوى عليه من تدليس وأكاذيب ولنا أن نتخيل أن محتوى ما يتم تداوله فى أجواء الأزمات التى نعيشها الأن هو محتوى مدبرا بالدرجة الأولى ، وسفيها فكريا وأخلاقيا ويعد تطرفا نمطيا يشبه إلى حد كبير لما كان يحدث فى الثمانينات من تطرف دينى إرهابى حاربته الدولة وقضت عليه وقتئذ ، حتى جاءت ماسميت بثورة 25 يناير على خلفية الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية وإن كانت الأوضاع السياسية أخذت شكلا الأكثر سوءا من غيرها ، واستبشرنا خيرا فيها على اعتبار أنها فرصة للخلاص من دكتاتورية الحكم ومحاربة مستنقع الفساد الذى تغلغل حتى فى النفوس ، إلاأن ذلك لم يحدث بل خلف وراءه فكرا منحرفا ملوثا ، فاستُبدلت خطابات التطرف الفكرى فى ثوبه السياسى  بخطابات التطرف الدينى الذى بات فى عالم الذكرى التاريخية المصرية مجرد حدث نجحت الدولة فيه محاربة الإرهاب والقضاء عليه بدحره ودرء براثنه . أما الأن فقد اتخذت شكلا أخر استخدمت فيه أدوات التقنية الجديدة ، سعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية بكل قوة  وبمباركتها لمن ركبوا هذه الثورة المزعومة ولاغرابة فى أننى أقول عنها أنها مزعومة لأن الأيام كشفت ولازالت تكشف لنا جديدا كل يوم فى عالم اللعب السياسى الخفى التى تداولته وتناولته أيد خفية كثيرة لاتحب مصر ولاتريد لها التقدم والريادة . وحتى بعد الثورة الحقيقية التى جاءت لتعديل المسار والتى مثلت إبداعة شعبية مصرية خالصة بنزول الشعب فيها يوم 30 يونيو ، إنما جاءت لإحساسه بضياع مقدراته ، وأن هناك تهديدا حقيقيا يحاك بأبسط ضرورات معيشته وحياته حتى أحلامه فى التغيير أيقن أنها ضاعت سدى . فالأمر لم يختلف كثيرا بالنسبة لهم ، فكل ما كان يمس قضايا ومفاهيم وصلت إلى حد المغالاة فى استخدام الإسلام كذريعة وفكر الجماعة كمصدر للحق ، والموقف من الآخر ، والولاء والبراء فى العقيدة والتبعية لشخص القائد ، والتحالفات الفاشية الدينية ، والطرح الشمولى باستغلال الحشد الجماهيرى بمفاهيم الشرعية والإعتصامات ، تم استبداله بمفاهيم مدنية ليبرالية ، لكن بمضامين وشعارات براقة أكثر تطرفا من سابقتها ، كالحرية المطلقة ، والعدالة الاجتماعية الناجزة ، والديمقراطية ، والتعددية السياسية  ، والنظام البائد ، ومفهوم الدولة العميقة ، وحكم العسكر ، والعصيان المدنى ، والنضال السلمى ، وحقوق الإنسان ، إلخ ، مضامين نادى بها الشباب وهى لاتمثل سوى شعارات مصدرة له من الخارج ، فاقدة المعالم ، وغيرمحددة الأهداف ، تضيع معها الحقيقة ولانعرف من يعضد دورها ، ولامُصدرها ولامن يتبناها ، مفرغة من مضمونها وجوهرها ، وفى نفس الوقت وبنفس الدرجة يقومون بالتعامل عكس الاتجاه وفق سياسة التمسح والتمحك تنفيذا لمخططات وأجندات خارجية ممولة بمنطق المطالبة بإقصاء هذا ومصالحة ذاك ومعاداة الغير دونما النظر لإرادة الشعب وقيم ثورته النبيلة ، فالخلط  أصبح واضحا ، والمسألة تدعو إلى ضرورة سرعة معالجة الوضع بغض النظر عن مآل إليه الوضع السياسى الحالى ، لأن الأمر تجاوز شباب الثورة الحقيقيين القليلين الذين انطمروا وسط هذا الطوفان الدخيل وذهبوا فى ظل هذه الأوضاع المتردية للغاية ، وطال أخرين فانحسر منسوب الوطنية لدى الجميع وباتت عوامل الهدم فى تفكيرهم ، وللأسف الشديد يمكننا اكتشاف هذه الأفكار المدمرة من براثن التطرف الفكرى فى تصورهم لمفاهيم الدولة والسلطة والقضايا السياسية العامة بمنتهى السهولة واليسر من خلال جولات يسيرة لأحاديث الشباب ومتابعاتهم للأحداث السياسية فى منصات إعلام الفضائيات وحواريات برامجها التى أصبحت هما على القلب ، وأيضا بتعقبهم فى المنتديات وعلى صفحات التواصل الإجتماعى فى تويتر والفيسبوك وتطبيقات الهواتف المحمولة الفيبر والواتس آب واسكاى بى وغيرها حيث تؤكد أننا إزاء خطر شديد وأن هناك عللا وأمراضا يمكن رصد نموها بشكل مطرد إذا ما تجاوزنا مسألة التطرف الديني والإرهاب إلى ماهو أبعد من ذلك دون الوقوف عليها وحدها ، صحيح أن هذه المسألة يجب ألا نحمل عبأها على الدولة فقط ، ولكننا يجب أن ننظر لها برحابة أكبر لتشمل مؤسسات المجتمع المدنى ، لأن الوعى بأهميتها سيجعل من السهل إطلاق مبادرات ترعاها هذه المؤسسات ، على أن تكون مؤسسات مدنية مصرية خالصة كالجمعيات الأهلية المهتمة بالوعى الاجتماعى والنخب الثقافية وعلماء الأزهر المعتدلين ممن يحظون بثقة هؤلاء الشباب دون تدخل من الأنظمة السياسة ، أوالنخب غير السياسية المتعاملة مع منظمات خارجية لدول أخرى راعية وممولة وتعمل لحساب أجهزة استخبارتية لدول كبرى لأغراض هدم الدولة ، وأن نعظم من دور الخطاب الدينى المعتدل لأنه غائب في هذه المرحلة تماما ، مما أوجد مضامين سياسية مطروحة على شباب اليوم ـــ ومعظمهم يعتقد فيها ـــ وهى مضامين بشعارات دينية تحتاج إلى مراجعة وتحتاج إلى إنتاج هذا الخطاب الدينى المعتدل أكثر منه كوعى سياسى ، لا سيما أن دخول التيارات السلفية التكفيرية وهى تيارات متطرفة كانت منحازة إلى الخطابات التى تحث على العنف والإرهاب من بوابة السياسة  ، مما زاد الأمر التباسا وتعقيدا ، وزد على ذلك طبيعة المرحلة الدقيقة التى تمر بها البلاد . مصر باتت فى حاجة ملحة لتضافر كل الجهود ووضع منهج جديد على غرار منهج إدارة الأزمات يُحكِم التفكير ويناقش الشباب فى كل مايمكن إثارته من توابع الأحداث دون تشويه للحقائق ، شريطة أن يكون الهدف واضحا والإستراتيجية واضحة وأن يكون المجتمع مهيأ لذلك حتى تعود الثقة إليهم تجاه مجتمعهم ، والوطنية لقلوبهم تجاه وطنهم ، ونستطيع الوقوف بهم على أرض صلبة فيعود انتماؤهم لمصر من جديد ، وإن كان الأمل فى سبيل تحقيق هذا ضئيلاً فى البدايات ، لأن البدايات دائما ماتكون صعبة ، ولكن بالإصرار والتحدى سنصل إلى تحقيقه بإذن الله تعالى ، وعشت مصر حرة بأبنائها .


مع خالص تحياتى : عصـــام                            القاهرة فى يناير 2014






  
                                                                                                                                       




السبت، 5 أكتوبر 2013

إطلالة على ملحمة أكتوبر




كنت لأجد مبررا أن أكتب بعضا من الكلمات عن حقيقة واضحة وضوح الشمس ، مازالت تتصدر الصفحات الناصعة للتاريخ المشرف لمصر ، وكنت أظن أنها لا تغرب أبدا ، ولكن بعد مرور هذه الفترات الطويلة العصيبة ، أصبحت غائبة ، نسيها الناس أو تناستها ، وطمسها رياح التغيير المر ، واعترتها عوامل هدم كثيرة ، أخرتنا ونالت من تاريخنا ، أهمها سياسة الاستحواذ وأطماع الحكم ، مما دفعنى دفعا لكتابتها حين بلغت حالة من الاستياء والإحباط الشديدين أغلقتا كل قدراتى على مواصلة بث كل بواعث الأمل بداخلى التى طالما أسرفت فى إدعائها. فقررت أن أقف عن صمتى لأصرخ خلاص مايدور حولى من حال تحول لنقيضه فى وسط أجواء مشحونة ومنتفضة تتحول مابين بلبلة من الأفكار المتشابكة والأيديولوجيات التى تضيف إلى الكوارث ردة فى الشعور العام ، وانهزامية لدى وطنية البعض من شباب مصر المغيبين ، التى كان من أهم نتائجها أن أصبحت ظاهرة تفشت بمنتهى العنف خاصة بعد انتفاضة الملايين يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 بالإنفلات من قيد القهر والظلم والجور وأكدته فى يوم الـثلاثين من يونيو 2013 بالتخلص من براثن الخونة وخوارج أخر الزمان ، حتى أفاقت من زمن ألاديمقراطية وتخلصت من كهنوت الإختباء والتخفى وأبقت على معنى الوطنية وأكدت عزيمة الرجال التى أذهلت العالم كله يوم السادس من أكتوبر 1973، رغم وجود قلة مازالت تعبس فى ظلام الجهل وتطمس الحقائق عن عمد ، فهم لايعرفون ولايريدون أن يعرفوا ، يريدون فقط أن تعود مصر دائما للوراء . لكن مصر كانت وستظل قوية بقواتها المسلحة رغم كيدهم ، فهى مكمن القوة والقادرة على صنع الرجال ، وهاهم أبطال مجد أكتوبر صناع تاريخنا المشرف .. صناع النصر والشهادة ، الأن هم حماة إرادة الجماهير وشرعيته فى عدم تقبل من يتآمر عليها أو يفكر فى طمس تاريخها العريق ، هاهم من أخرجوا مصر من النفق المظلم ، الذى لايعلم مداه سوى الله سبحانه وتعالى ، إرادتهم  كانت فوق كل الاختلافات : الدينية والمذهبية والعصبية والطبقية والجنسية والسياسية ، فاستعادوا للوطن كرامته وهيبته من الضياع المحكم والمطبق ، إنها الحكمة والتعقل لرجال قواتنا المسلحة فى وقوفهم الكامل وانحيازهم لإرادة شعبهم لأنهم جزء أصيل منه ، وهذه هى مواقفهم دائما منذ عهد مينا حتى سيادة الشعب الأن ، ألم تكن مثالا للوطنية والبسالة والشجاعة , ألم تكن مثالا على روعة الفداء وإنكار الذات ، إننى أتيه فرحا وفخرا بما صنعته قواتنا المسلحة ، فهم فقط من يريدون أن تمضى مصر ودائما قُدما للأمام ، ومن عبور قناة السويس عام 1973 لعبور وطن 2013 ، يسطر التاريخ لهؤلاء الأبطال حروف من نور تروى كفاح شعب ناضل ولايزال .. شعب لايعرف المستحيلَ ، ولايرتضى بالخلود بديلا ، هكذا علمنا التاريخ وأكدته الشواهد والأيام .




كنت أحلل لنفسى أسباب صمتى بدعوى تغير الزمن ، فبمرور حقبة كبيرة على نصر أكتوبر استجدت بعض المتغيرات والتداعيات التى خالفت الملامح المصرية أدخلتنا فى عراء تاريخى لغياب هذه الروح والدخول فى رحاب عالم تداخلت فيه أشياء كثيرة أهمها من وجهة نظرى البث التكنولوجى الموجه والمحفوف بالمخاطر . هذا الجو العام الذى خلق نوعا من بلبلة الأفكار من جراء الزخم المتداخل من إختلاف الآراء والأصوات المرتفعة التى تميل ميلا شديدا للعنف واستخدام القوة ، هى التى غلبت العبث فى التصرفات والتعثر في فهم الحقائق ووضوح الرؤية والاستقطاب الذى ساد روح الخطاب لدى الشباب والذى لاقى رواجا مقبولا لدى المثقفين منهم ، وهذه كارثة ، من هنا جاءت حالة الانحسار لعدم وجود القيادة الملهمة أو الداعمة أو المولدة للروح التى كانت موجودة لدى شباب العبور فى أكتوبر 1973 والتى ترتبت عليها حالة الانكسار التى أصبحنا نعيشها اليوم ونعانى منها لتفسخ الارتباط بماضينا ، بل والبعد عن تراثنا وموروثاتنا وعاداتنا وتقاليدنا ، وإزاء هذا الواقع المرير الذى جاء نتيجة تراكمات عديدة آثرت السكوت ، إذ تاهت الكلمات منى ، ولم أجد الدافع للبحث عنها،  قناعة بوجود فجوة كبيرة ومتسعة أفضت بعدم الإتزان فى فكر البعض وأدت إلى إختلاف الرؤى والاتجاهات مابين مناهض ومناقض مما أوجد بؤرة خطيرة فى نفوس المصريين عمقت الفارق الكبير مابين ماض كان مفعما بروح التضحية والفداء ، وحاضر وقع فى فج عميق يسوده حالة من اللامبالاة يستنكر روح الانتماء ويعظم بل ويروج لثقافات أجنبية دخيلة فى شتى المناحى لمجرد الهوس بها وماتنطوى عليه من تقدم تقنى وعولمة الفكر ، للأسف وقع معظم شبابنا أسيرا لها طواعية ، وأوجد فى نفوس أخرين فكرا مناهضا يعلمون مصدره وخطورته تعاظم لعدم وضوح الرؤية .. فكرا دينيا فاشيا متطرفا من تيارات إسلامية معقدة ومتشابكة خلطت مابين أمور الدنيا والأخرة وبعدت كل البعد عن دولة رسول الله منهاجا وشرعة ، ، فأصبحنا أمام خيارين كلاهما مر ، وهذا دفع بطبيعة الحال إلى الانفصام والتعالى عن حب الوطن لدى الشخصية المصرية بصفة عامة والشباب بصفة خاصة بدعوى أن مصر لم تقدم شيئا لأبنائها حتى يكون لديهم الدافع للانتماء لها ، مما أوجد هذا الشرخ الذى أخذ فى التعمق مع تداول الأيام والسنين ، وهذا جعلنى أتمنى لو أن الزمان يعود بنا لأيام ملحمة العزة والنصر ، حتى نعيش اللحظة الفارقة من الزمن الجميل الذى كان فيه الرجال رجالا ، وكان الانتماء وحب مصر يملأ البسيطة من أرضها ، الأرض الفيروزية الحبيبة الغالية التى طالما ارتوت بالدماء الذكية لابنائها المخلصين ، حتى جاء يوم الثلاثين من يونيو 2013 يوم استرداد العزة والكرامة .


إن يوم السادس من أكتوبر من هذا العام جاء فى ظروف مغايرة ، أيقظتنى من ثباتى العميق حتى وجدت الكلام يتفجر منى ، واسمحوا لى بالعودة للوراء لهذا الزمن الذى لازلنا نرتوى من نهر عطائه المتدفق وبالتحديد مع الساعة الثانية والنصف بعد ظهر السادس من أكتوبر منذ عام الف وتسعمائة وثلاثة وسبعين ، ومع الطلقات الأولى لعبور قواتنا المسلحة للضفة الشرقية من قناة السويس وعبورخط بارليف الحصين ، عندئذ تغير كل شيئ على أرض مصر  ، إنه الميلاد الحقيقى للسلوك والتصرفات والاحساس بالمسئولية .. ميلاد جديد للحب وروح التعاون ، وتجسيد معنى التضحية والفداء ، ودعوة صريحة للعمل المتواصل ، إنه الاستثمار الحقيقى لروح ومجد أكتوبر الذى كنا قد بعدنا عنه كثيرا ، حتى أصبحنا فى حاجة لتعظيم الشعور بقيمة خضوب الأرض من المساحات الشاسعة من الرمال الصفراء التى تحولت إلى حمراء على مدار تاريخها .. تلك الأرض الغالية التى تربعت عليها سماء مصر الصافية برجالها ونسائها وشيوخها وأطفالها ، الأن تصرخ من يصونها بعد أن نالتها يد الخسة والغدر والخيانة من بعض ابنائها الخونة والأفاقين والمرتزقة .. إن مصر الأن تريد من ابنائها الحقيقيين أن يتماسكوا ويترابطوا وأن يهتفوا لها  بنداء الحق ( الله أكبر ) من جديد .. تريد من ينفض عنها غبار السنين الطويلة من التردى والبعد عن روح الوطنية والشعور بالانتماء .. تريد من يشعرها بالأمان من أجيال غفت وأجيال تناست وتعاقبت على جيل أكتوبر العظيم .. تريد أجيالا تضيف لمنظومة النصر ولاتنتقص منه ، تقدم النفيث والغالى .. تقدم الروح والدم  فداء لها مثلما فعل جيل أكتوبر ، صحيح أن الوقت كان يبعدنا أو يلهينا ولكنه لاينسينا أن مصر هى مصر ، وستبقى دائما مصر ، فهى كانت ترى أبناءها دوما مستعدين .. متأهبين .. خاشعين .. لايخافون الطلقات وهى تقترب من صدورهم ، إنها الأن تواقة .. تريد عطاء من ابنائها الذين يقدرون ترابها الغالى ، لأنه أغلى ماتقدمه لهم ، قد فعلها جيل أكتوبر شغفا وحبا حينما استبقوا جنودا فى قواتها المسلحة بعد انتهاء مدة خدمتهم الالزامية سنوات وسنوات وهم فى عمر الزهور فتحوا صدورهم الشامخة يتلقون الطلقات حتى نفدت راح فيها من راح ، وذهب فيها من ذهب ليفتحوا برفق كل أبواب الأمل حتى يطل من ورائها أطفال مصر ليروا المستقبل بعيون جديدة ، وهاهم أصبحوا ملايين وملايين من الشباب ، ولكنهم بدلا من أن يواصلوا منظومة الكفاح والعطاء ذهب بعضهم  لينالوا من إخوانهم فى الدين والوطن ، والبعض الأخر راح ضحية الإعلام الموجه والحالة الاقتصادية المتردية والعولمة وخان منهم من خان وتآمر منهم من تآمر مما روج وبث فى نفوسهم الأنانية والفردية لطمس معالم الانتماء فيها ، وهذا ماوضعنى فى حيرة حينما تأملت الشخصية المصرية وطبيعة تصرفاتها وردود أفعالها وخاصة فى وقت الشدة والمحنة والفتنة كأيامنا هذه ، وضع يفرض نفس التساؤل لماذا تبدد بل واختفى كل ماكان يتحلى به الجيل العظيم من مزايا  .. جيل أكتوبرالذى حارب وحقق الانتصار عن جسارة واستبسال ليخرج للعالم عظمة الإنسان المصرى ، أين هو الأن ؟  لماذا لم يحافظ على انجازاته ؟ لماذا ذهب ولم يعد ؟ هل يرجع هذا لتغير معايير الحياة وتبدل كل أشكالها وممارساتها من رؤى وتوجهات ؟ أم ماذا ؟ اسئلة عديدة تفرض نفسها ولكن لاتجد إجابة ، مفترض أن المسئولية اليوم أثقل لأن تحدياتها أصبحت أكبر والنصر لايحميه إلا مزيدا من الانتصارات ، والمحافظة على البطولات يستوجب مزيدا من العمل .. وأنه ليس أمامنا أية خيارات أخرى ، لقد نفد كل ماكان متاحا بعد تشرذمنا ومواجهة بعضنا بعضا ، ونسينا أن الكل سواء فى منظومة حب الوطن ، إنه لاسبيل أمامنا سوى بناء مصر ومواجهة تحديات المستقبل وتأمين الانتفاضات الشعبية التى هبت رياحها من جديد لتجدد عطاء المصريين ، كى نضيف رصيدا على انجازات التاريخ المصرى الناصع ولايتأتى ذلك إلا بسلامة العقل وقوة العلم والتكنولوجيا الخلاقة وبأفكار مبتكرة جديدة تقدم حلولا ناجزة لقضايا متراكمة مستعصية ‏وقلوب تحب هذا الوطن حبا حقيقيا لابالشعارات ,‏ وليس بالضرورة أن تكون المواجهات بالدخول فى غمار حروب عسكرية جديدة ، بل مواجهة  التحديات بالتحديات نرفع بها عن كاهل بلدنا ماأثقله وخاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية منها ، إنه التحدى الجديد ‏.


ماأحوجنا اليوم إلي انتصارات حياتية في معارك التنمية والتكنولوجيا والتعليم والإدارة ومكافحة الفساد وغيرها من معارك النهوض والتقدم‏ ، فالحرب العسكرية من أجل العقيدة والشرف والعرض ، حرب معلنة وصريحة ، أما حروب التنمية تتم بتوجهات أخرى منظمة وشرسة ، غير معلنة ومجهولة المصدر ، لانعرف من أين تأتى ؟ .. إنها الحرب الاقتصادية التى جاءت متوائمة مع العولمة ، ونحن نعيش فى عالم تضمه سلة واحدة ، البقاء فيها للأقوى ، ونحن لم نكن الأقوى ولا الأفضل ، ولكن هناك حقيقة ينبغى ألا تغيب عن أذهاننا أو ضمائرنا كلما أخذتنا الحياة أو جرفتنا للمناطق البعيدة ، أن قوتنا فى وحدتنا ، وأنها كانت هى القاعدة الاستراتيجية ذات القوة الهائلة التى انطلقت منها شرارة أكتوبر والتى كشفت معها جوهرنا الأصيل . إننا نريد أن نفصل هذا المزج الغليظ حتى يظل شباب مصر متدفقا مع كل قطرات الدم التى اندفعت من الصدور ولم تمت ، وروت الأرض ولم تجف ، إنها دورة متجددة مثل الشمس التى تغيب وتشرق من جديد ، ومثل الأرض الحبيبة الطيبة التى يكسوها اللون الأسمر ثم تخضر ، لقد اختزلت مصر كل أحلامها وكنوزها فى وجوه شبابها السمر الشداد على مدار السنين ، الأن تحلم بعودتهم فى أحضانها من جديد ، اختزنته كى تدفع به لو فكر أو حاول كائن من كان أن يمس كرامتها وعزة ابنائها ، ولم تختزنه كى يطمع فيها طامع أو يدنسها خائن أو يتآمر عليها عميل من أجل عرض زائل أو دنيا يصيبها ، فهل نحن قادرون على إعادة تأهيل أنفسنا كى نتحمل المسئولية من جديد ، هل فى قدراتنا تكرار تحقيق انتصارات أكتوبر ، فى كل شيئ بما يتفق مع الشرعية الحقيقية المستمدة من الشعب وللشعب وتعمل على استقراره والعيش فى سلام ؟ ، إن نصر أكتوبر لازال علامة بارزة فى تاريخ أمتنا العربية ، تفوح ذكراه كل عام ، فنستعيد منه ذكريات العزة والكرامة والفخار . إن الروح العظيمة التى حركتنا فى أكتوبر لقادرة أن تحركنا اليوم وغدا ، قادرة على رسم الطريق ، وقادرة على إنتاج مسببات انتصار أكتوبر كى نحول هذا الانتصار إلى قوة ملهمة نواجه بها تحديات واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي  مع تحمل ابناء مصر المسئولية بإيجابية ــ وأعنى شبابها ــ وتقديرهم العميق لقيمة ترابها واستيعابهم لمعنى الوفاء والتضحية والفداء .. معنى العزة والعيش بكرامة ، وأخيرا التغنى بحب مصر لا بالهتافات وحمل الأعلام فقط ، ولكن بصدق النوايا والعمل الجاد .
       مع خالص تحياتى : عصام                                                       

القاهرة فى 4 من أكتوبر 2013
                                                                                                  








        

الخميس، 15 أغسطس 2013

ولك يامصر فى العمر بقية



ولك يامصر فى العمر بقية

كنت قد عاهدت نفسى منذ مجيئ مرسى إلى سدة الحكم ألا أكتب كلمة واحدة عن مصر طالما أن الأمور لم تعد ترضى أحدا وكثيرا ماكنت أفضل الإختلاء بالنفس أقلب كتبا وأوراقا .. ليالى طويلة تمر ثقيلة خاصمت فيها الإذاعة والتلفاز حتى لاأسمع شيئا يضايقنى أكثر مما أنا عليه ، فلا أرى صورته التى كرهتها من القلب فى صحيفة أو تلفاز أو اسمع نبرات صوته المتداخلة والمتشابكة والمضطربة فى أحاديثه الملفقة الكاذبة والفاقدة لأى وسيلة إقناع لدى سامعيه . فكانت الأيام تمر بصعوبة بالغة والأمور تتشابك وتتعقد ، وكل يوم يأتى يحمل معه أخبارا جديدة لم تكن سارة ولم نكن نحن متقبلين لها ولا نصدقها .. دخول وخروج وجوه كالحة ونفوس مريضة وأذهان غائبة شاردة لادراية ولاخبرة ولامنطق ولاعلم ولاحتى دين ، حتى وجدنا أنفسنا محاصرين بوجوه غريبة علينا أدمنت الوعود الكاذبة وأدارت شكوك المصريين على مدار عام كامل عاشته مصر فى مرحلة دقيقة شهدت خلالها المئات من التظاهرات اتسمت معظمها بالإنقسامات حتي وصل بنا الحال إلى مانحن عليه اليوم من تكفير وفتن بين ابناء الوطن الواحد بل وابناء الدين الواحد ، كانت بعض الأنظمة السابقة تشعل نار الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين بين حين وأخر ، والأن نجد من ابناء ديننا ـــ وللأسف معظمهم  شيوخا كنا نظنهم يوما ما وننظر إليهم على أنهم من الثقات ومن أهل الحل والعقد ـــ من يضرم الفتن ويشعلها  نارا بين ابناء الأسرة الواحدة هذا مسلم وهذا كافر ، أنه الداء الذى ينبغي أن يُقضى عليه بعد أن أفسد الضمائر وأعتلت به النفوس .
أسأل نفسى معتادا كل يوم أهكذا تكون النهاية ؟ أهكذا تخرج مصر بهذا الشكل على مسارها التاريخى وتضيع ثورتها الملهمة للعالم ؟ وياترى ماهو التصور المقبل لأيام  باتت فاقدة المعالم والرؤى ؟! إن ماأراه إنما هو نتاج من ارتباك المفاجأة الذى جاء محفوفا بملابسات كثيرة ، وشعب تصدر المشهد ثم يعود ويتوارى وراء الأستار ، ونحن الذين كنا وبلا فخر شعبا له مقوماته وشكيمته وله المنعة والقدرة والقوة .. شعب اعتاد الرقى وأدمن الجمال وعرف التدين والأخلاق والفضيلة مذ عهد صحابة رسول الله عند فتحهم  لمصر بل وأصبحنا فيما بعد المصدرين للثقافة الإسلامية فى لعالم كله ، فإذا به تتعثر خطاه أمام أفكار شاردة غريبة عن ثقافته وإيمانه بخالقه .. أفكار اجتاحتنا اجتياحا باسم الدين شككت فى كل شيئ وأصبحت مبعثا للفتن تقلب الناس على بعضهم البعض كل يوم كيفما تشاء لنرى مصر وقد اتشحت واسودت وتلبدت سماؤها بالغيوم الكثيفة وتخضبت أرضها  بدماء مصرية عزيزة سالت على ضفاف نيلها مهبط الحضارات الإنسانية ورمز المحبة والعطاء .


 


عشت حالة من الإحباط والخوف والترقب لما سيئول إليه مستقبل هذا الوطن .. فبالأمس القريب عشنا تجربة رائعة مع ثورة عظيمة فى 25 يناير2011 طالما حلمنا بها عبر سنوات طويلة ، تجسدت وجمعتنا على مبادئ وأهداف واحـدة وتصورنا أننا عبرنا نفقا مظلما نستشرف بعده حياة جديدة رحبة ولكن للأسف الشديد خذلتنا الأحلام وتبددت الآمال ووجـدنا أنفسنا غربـاء فى بلدنا حتى جاءت الشرارة فى مشهد  ستاد القاهرة الذى دعت إليه مؤسسة الرئاسة تلبية لإملاءات أمريكية بدعوى نصرة الشعب السورى بمشاركة التيارات الدينية المختلفة التى تدعى الإسلام بدعواتها لتكفير جموع الشعب المصرى من الخارجين على تفكيرهم فى تحد سافر لقيمة ومشاعر المصريين الذين يرفضون الوصاية والولاية من أحد ، ولتسفيه حملة تمرد التى ظنوا أنهم قادرون على إحباطها .. ظنوا ولكن الله خيب ظنهم ، فكانت الإنطلاقة الكبرى لقيام ثورة 30 يونيه بمرجعية ثورة 25 يناير .

وأخيرا قامت الثورة فى يوم من أجمل أيام طلعت عليه الشمس فى أرض مصر ، يوم الثلاثين من يونيو .. يوم استرداد العزة والكرامة ، فيه ارتقت مصر كلها فوق الهامات بالهدير المتوالى للرجال والنساء والأطفال والشيوخ .. خرجت جماهير مصر من كل الربوع .. من الشوارع العامة والخلفية والجانبية.. من الأذقة والحوارى والمنعطفات .. خرجت من أقصاها لأدناها بلا قائد أو توجه سياسى .. خرجت بعفوية الحب لترابها المقدس .. مدفوعة بيقين القلب وفى ثبات تعلو وتزأر لتدافع عن حريتها التى أصبحت فى مهب الريح .. كانت التموجات الهادرة هى الأكثر اجتياحا لكل محافظات وميادين وقرى مصر على مدار تاريخها العريق ، إنها قدرة الشعب المصرى بما عرف عنه من أصالة وروح ووطنية عالية على تخطى كافة العقبات والصعاب ، ملحمة جديدة من النضال الوطنى اهتز معه الغطاء ليكشف لنا ماكان مستورا ، وربما ينكشف لنا أكثر فى الأيام القادمة بتفاصيل أخرى تتضح معه الرؤية بصورة أفضل ، وربما يتزحزح الغطاء بانفراجة كبيرة تنجلى معها الحقيقة بتفاصيل أدق عن مهازل سنة كاملة من حكم الدكتور مرسى وبالتبعية حكم الإخوان الخوارج  الذين حكموا مصر بتوجهات مكتب الارشاد وباتفاقات تمت مسبقا مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعض القوى الأجنبية ، لقد أثبتت الأيام أن قدراتهم السياسية محدودة لاترقى لحكم بلد عظيم كمصر . حيث نشأت المعضلة بين مرسى والشعب المصرى من مفهوم جماعة الإخوان المسلمون البرجماتى لبناء دولتهم الذى تبنوه كدولة ايديولوجية مغلقة تستند على استعادة بما أسموه أو كما يحلمون "الامبراطورية الإسلامية" ، وأعتقد أن هذا هو الأساس فى جعل مرسى ليس رئيسا لكل المصريين وإنما ممثل لأتباعه ومؤيديه ، مما أعاق مواجهته لشعبه وعجزه فى كيفية التعامل معه فهو لم يخرج عليه سوى مرة وحيدة يوم فوزه فى انتخابات مشكوك فيها أصلا ويقال أنها باطلة شرعا لاستخدامهم الحيل الدينية بانتحال آيات الله والاقتداء بأحاديث رسول الله فى غير موضعها فى السباق الانتخابى المحموم على البسطاء والمغيبين ، وحتى عندما حكم لم تكن له سلطة التقدير أو ملكة إتخاذ القرار ، فكثيرا ماكان يصدر قرارات جمهورية ثم يعود وينكص فيها فكان لزاما على مصدرالوحى الذى لديه السلطة أن يخرج للشعب ليتحدث وهو مالم يحدث على مدار عام بأكمله ، لأن جماعة الإخوان خوارج أخر الزمان يريدون السلطة فى الظل ليحكموا دون أن يحاسبوا والدولة عندما تتحدث يجب أن يكون بلسان الشعب وهو مالم يعرفه مرسى ، لانه لايفرق بين التسلط والاستبداد وديمقراطية الحكم ونراه يتكلم كثيراعن الشرعية وهو يجهل مبادئها ويفعل عكسها ، وعندما تستوى الأمور لديه فلامانع من تجاوز حدود حكمه الخيانة العظمى للبلاد حيث كان لايخجل من التعامل مع الاجندات الخارجية التى هددت الأمن القومى بتدخلات سافرة من الغير فى شئون البلاد الداخلية وهذا ماستؤكده الأيام القليلة القادمة وسنعرفه حتما بالمستندات وبالمحاسبة القانونية ، كما تعمد تجاهل سقوط القتلى كل يوم بدءا من الأحداث الدامية بورسعيد ومرورا بفض اعتصامات الإتحادية وأحداث شارع محمد محمود المتكررة وقتل الجنود فى رفح وخطف أخرين ، وانشار الحوادث يوميا وجرائم السلب والنهب وانتهاكات الطرق والحرائق التى طالت معظم مؤسسات الدولة وخاصة المحاكم ، والتظاهرات غير السلمية والإعتصامات الإجرامية أمام مدينة الإنتاج الإعلامى والمحكمة الدستورية العليا والاضطرابات المتتالية فى كل محافظات مصر ، وسقوط قتلى يوميا من هنا وهناك مابين جنود من الجيش والشرطة وأفراد من الشعب والتضحية بهم فى سبيل مصالح شخصية ليعيد كشف الوجه الحقيقي لجماعة الإخوان و الخلايا النائمة التابعة لها فى شتى المجالات الرياضة و الإعلام و الفن و القضاء و الشرطة والأزهر والكنيسة ، ليبدى الشعب علانية استياءه من مشهد الحراك السياسى الذى يشهده المجتمع المصرى بمجمله وبتداعياته التى جلبته ثورة 25 يناير وخاصة فيما  يتعلق بمسألة تداول السلطة ، بوضع تمزج فيها القمع والتصلب والتراجع والانصياع لهذه الجماعة المتسلطة والتى لم تكن مطالب الشعب واحتياجاته المختلفة فى الحسبان ، وسط هذه الصورة المركبة والمعقدة غاية فى التعقيد يصبح السؤال حول الوضع الراهن للثورة المصرية ومستقبل التطورات السياسية المتلاحقة أمرا ملحا ويستحق التأمل ، وخاصة مايتعلق منها بالأمن القومى ، إذن ما حدث فى ثورة 25 يناير 2011 ماهو إلا سطو منظم ومسلح على السلطة .





قبيل ثورة 30 يونيو كنت ككل المصريون أجلس أمام شاشة التلفاز أتابع بشغف بالغ كل البرامج الحوارية  والأخبارية وكثيرا ماكان يصيبنى الشعور بالملل والإحباط من الأفكار والحوارات المتكررة والأحداث التى كانت تمر ببطء شديد ورغم هذا كله كنت أراهن على الشخصية المصرية التى اتسمت وعلى مدار تاريخها بالعمق والمصداقية ، لأن مصر تسرى فى الدماء، وإذا أحست بأى خطر يهددها يقوم ابناؤها منتفضين للذود عنها مضحين بالغالى والنفيس .


ودعونى أقف وقفة لإعادة تقييم الموقف عن كثب ونضع ميزان العدالة الناجزة للحقيقية نحتكم فيها إلى آليات الديمقراطية ، فالموجود كان احتلالا لسلطة الدولة عقب قيام ثورة لم يكن الإخوان هم صناعها بل تداعت الظروف حتى اسُقطت فى أيديهم لاعتبارات دولية وصراعات محلية وتحركات مريبة أهمها المؤامرة الدنيئة والمخطط الشيطانى الذى كان فى طريقه للتنفيذ على يد التنظيم الارهابى الدولى برعاية إخوانية إمريكية لتقسيم الشرق الاوسط وترسيم خريطته من جديد ، هكذا كانت المحاولات المستميتة من الادارة الامريكية لتنفيذ مخططاتها التى دعتها لخلق تحالفات مع قوى داخل مصر من أجل تحقيق مآربها وإنهاء الصراع الإسرائيلى الفلسطينى , وليأسها من تحقيق تقدم مُرضى فى الملف الإيرانى ، لقد بنت الولايات المتحدة هذه الشراكة على فكرة الإستعاضة بالإسلام السنى فى مقابل المد الشيعى ليأسها من الملف الإيرانى ولمحاربة الإسلام بالإسلام ، وبالطبع لم تجد أفضل من جماعة رادكالية كالإخوان المسلمين ، فهى جماعة منظمة ومتماسكة ومتشددة فى اعتناقها لمبادئها ومتطرفة عن مجريات الحياة السياسية فى مصر منذ أكثر من ثمانين عاما منصرمة, فإنها كانت ولازالت تسعى بكل قوة الوصول إلى سدة الحكم فى مصر ، ومنه تنفيذ المشروع الإسلامى الكبير , فضلا عن علم الإدارة الإمريكية بأن هذه الجماعة فى سبيل تحقيقها لهذا الأمل لاتمانع من ضرب الأمن القومى المصرى عرض الحائط حيث لا يمثل لهم شيئا ولا يلتفتون إليه وإنما يأتمرون بالتوجهات الصادرة من التنظيم العالمى للإخوان والامتثال لأوامر مرشدهم العام بالسمع والطاعة الكاملين دون نقاش ، كما تعلم أيضا بمدى أطماعهم فى الاستحواذ وحياذة أكبر قدر من مفاصل الدولة وأجهزتها لتمكينهم من السلطة منفردين ، ولايهمهم فى سبيل تحقيق هذا مصالح وأهداف الشعب , لذا بدا الانسجام واضحا مع الإدارة الامريكية التى بدأت بالفعل فى دعمها للجماعة بكل قوة أولا بفرضها الترهيب أبان إدارة المجلس العسكرى لشئون البلاد وماترتب عليه من إنفلات أمنى منظم وفوضى مدبرة، وما نشأ عنهما من هدم للسجون وترويع الآمنين وتخويفهم والجرائم المسلحة والبلطجة الجنائية والسياسية والعنف السياسى المفرط والاستعانة ببعض القوى الإرهابية ، وليست القضية الشهيرة الخاصة باقتحام السجون المعروفة باقتحام سجن وادى النطرون ببعيد وهى القضية التى أتُهم فيها محمد مرسى والكتاتنى وعصام العريان وآخرون بأشخاصهم بالاشتراك مع عناصر من حماس وحزب الله الموثقة بتسجيل من محمول قناة الجزيرة بصوت الدكتور مرسى . وثانيا بفرض شرعية الصناديق وتحملها النفقات الباهظة للإنتخابات البرلمانية والرئاسية والتى قيل أنها تعدت الخمسين مليار دولار , حتى مكنت الجماعة من الحكم بالهيمنة والتزوير والتلاعب بمشاعر المصريين من البسطاء واستقطابهم بالإغداق عليهم بالأموال وتوفيراحتياجاتهم الضرورية لشراء أصواتهم . ومع وصول الجماعة للحكم ـــ وهم لم يأتوا إلى الرئاسة فى ظل أوضاع ديموقراطية مستقرة ـــ  بدأ تنفيذ المخطط الإمريكى الإخوانى المعد والمخطط له سلفا , فأصبحت سيناء مرتعا للجماعات الجهادية الإرهابية من تنظيم القاعدة وكتائب القسام ومنظمة حماس الذراع اليمنى لجماعة الإخوان عن طريق المعابر والممرات الشرعية وغير الشرعية وماأكثرها , وبدأت فى عمل مناوشات بقصد تشتيت وإبعاد الجيش المصرى بل وإنهاكه وإظهاره أمام العالم بوهنه وضعفه , بلغت ذروتها بقتل ستة عشر جنديا فى رمضان من العام الماضي ، وخطف سبعة جنود هذا العام وإظهارهم بشكل مترهئ ومخز إعلاميا أمام العالم ، يأتى ذلك فى الوقت الذى وعدت فيه الجماعة بترك حلايب وشلاتين للسودان, وإعادة ترسيم الحدود مع الجانب الاسرائيلى باقتطاع جزء من سيناء قُدر ببضع وسبعين كيلو مترا فى العمق تُضم لقطاع غزة لإقامة الدولة الفلسطينية عليها لتضيع القضية الفلسطينية هباء وتحريرالقدس إلى الأبد , كل ذلك أدركه الشعب الذكى بفطرته فخرج غاضبا رافضا فى إباء على من أراد أن يهوى به وبمقدساته وبتاريخه إلى الحضيض, ، خرج لكى يُفشل جميع مخططات ومؤامرات الغدر والخيانة والخسة ، خرج الشعب المصرى عن بكرة أبيه كى يسقط النظام فى أكبر تجمع شعبى عرفه تاريخ البشرية فى أيام 30 يونيو و 3 ، و26 يوليو .. فى ثورة استرداد الكرامة من سلطان جائر وجماعة باغية ، خرجت تلك الحشود مؤيدة ومفوضة جيشها العظيم الذى أقسم على حماية الجبهتين الداخلية والخارجية وليس حماية مخططات الخزى والعار والهدم ، خرجت تلك الحشود حيث طلب القائد العام للقوات المسلحة منها ذلك بعد أن انحازت إليه وباعتبار أن المؤسسة العسكرية  ليست لها أرضية سياسية ولاسقف سياسى والشعب وجد نفسه فى عراء تاريخى تملكه الانفعالات والنفور فخرج ليعلنها صراحة بأنه أصبح لديه قناعة بأنه لايمكن ترك الساحة لأى متآمر بعد اليوم ، وأن القوات المسلحة ملك الشعب ومن العمل العام باعتباره ابن الوطنية المصرية وفى ذات الوقت أبوها كما قال عنها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ، وأن الشرعية باتت فى خطر والتمثيل فى خطر ، وأن الشرعية ليست شرعية الصندوق والرئيس ليس له مطلق الشرعية طالما أنه لم يعد قادرا على التمثيل والتوجه الاستراتيجى لتحقيق آمال وطموحات  شعبه ، وليس له القدرة على إدارة دولة بكل مافيها من فكر ومؤسسات وقوى ، رئيس لم تعد له حيلة ويخدم بطريقة خطأ لم يحدد أولويات ولاتوجد معالم حتى لبرنامجه الانتخابى " النهضة " الذى جاء على خلفية قدرته لحل مشاكل الأمن والمرور والنظافة والكهرباء والطاقة ، وهى المشكلات التي وصفها بالمفتعلة ، وأنها تحتاج فقط مائة يوم كى تستقر أوضعها ويمنع التلاعب فيها، والذى زعم معرفته بآلياتها ، وآليات وجود الدولة العميقة ، وانتشار الفساد ، وانهيار الاقتصاد وأنه سيقضى على كل ذلك . ومر عام كامل فشل فيه مشروعه فشلا ذريعا بل تفاقمت معه مشكلات أخرى استجدت على الساحة ارتفع معها معدل التضخم وخلقت معضلات أكبر أحسها المواطن البسيط فى الشارع المصرى بدءا من الإعلان الدستورى الذى جاء مجحفا ومناقضا للأعراف الدستورية والقانونية فى العالم لرئيس منتخب يصدر إعلانا دستوريا والمفروض أن الدولة بانتخابه انتقلت من الشرعية الثورية للشرعية القانونية ، ويكفى لهذا الإعلان أنه أوجد جبهة معارضة هى جبهة الإنقاذ ، لقد جاء الإعلان الدستورى دعما للفراغ السياسي بدلا من التخلص منه.. وأصبح مالايملك يعطى مالايستحق حيث حصن مجلس الشورى المطعون بعدم دستوريته ومنحه سلطة التشريع كاملة وهى التى لم تحظ إلا بــ7% فى الانتخابات ولم يقر من قبل مشروعات القوانين ولايعرف كيفية إدارة مناقشاتها أو إصدارها، ورغم أن المبرر المعلن من إحالة التشريع إلى مجلس الشورى كان هو إنجاز قانون الانتخابات البرلمانية ؛ إلا أنه تم تمرير عدد كبير وضخم من القوانين التى تخدم سياساتهم ومصالحهم وجاءت جميعها خلوا من أى قانون يحقق العدالة الاجتماعية مما أشعر المجتمع كله بالخطر، كما أنه كبل الحريات بدخول المعارضين من النشطاء السياسيين السجون والاستعداء للسلطة القضائية . ثم جاء على خلفية هذا الإعلان وضع دستور المفترض أنه سيستوعب جميع مؤسسات الدولة ويحقق فيه آمال وطموحات كل القوى الشعبية باختلاف أطيافها بما فيها المعارضة ودفعها إلى العملية السياسية بديمقراطية وحيادية ، ولكن تم سلقه وخطفه فى ليلة امتدت للفجر وهو نتاج جمعية تأسيسية هى الأخرى مطعون بعدم دستوريتها وفاقدة لصفتها التأسيسية فى الأصل ، وصدر فاقد الشرعية لغياب التوافق عليه بعد انسحاب ممثلى مكونات سياسية واجتماعية ودينية أساسية فى المجتمع ،  كل ذلك وغيره كثير أحدث اضطرابا سياسيا وعداوات مع كافة مؤسسات الدولة فضلا عن قلة بل وندرة الاحتياجات الأساسية من سلع ومنتجات حتى رغيف الخبز لم يسلم من هذه الأزمات التى تفاقمت وطالت البترول والكهرباء ، فالخلط بدا واضحا وأوجد الضغط الكافى لخروج الملايين التى كان يسبقها إيمانها وتيقنها بأن صوتها له قيمة فارقة ووجودهم فى الشارع أصبح له مرجعيته وأنهم هم الشركاء الحقيقيون فى صنع قرار هذا الوطن ، وبالتالى صنع حاضره ومستقبله ، وأن الأعراف الدستورية والنظم السياسية تؤكد ذلك وتعرفه بأن الشعب هو مصدر سلطاته وأن الشرعية الثورية مقدمة على شرعية الصندوق إذا ماخرج الشعب وأراد التغيير ، فالشعب أيقن بأن إرادته حرة ولايقبل إهانته ولاإهانة مؤسساته : القوات المسلحة ، الأزهر ، الكنيسة ، القضاء والداخلية كما لايقبل إهانة رموزه السياسية ، ويرى أن المستقبل مرهون بالشباب لأنه لايرتهن بالماضى ولايرتهن بتصفية حسابات ، ولكن لديه إرادة قوة الطلب ويملك صيحة المستقبل ليعلى بهما إرادته فى التعبير ورغبته فى التغيير إلى مستقبل أفضل ولاينقصه فى الأداء سوى الحاجة إلى قيادة حكيمة وخطة طموحة وبرامج محددة قابلة لتنفيذ مطالب شعب كى تستكمل ثورة 25 يناير ـــ الذين هم صناعها الحقيقيون ـــ  تحقيق أهدافها بثورة تصحيح المسار ورد الاعتبار فى30 يونيو ليتوحد شعب مصر من جديد فى ملحمة جمع شمل الوطن ، لتعود مصر لأحضان أولادها الحقيقيين تحيطهم ويحيطون بها بالمحبة والتسامح والآخاء تحت شعار الثورة " عيش حرية .. كرامة إنسانية .. عدالة اجتماعية " وليذهب الأخرون إلى الجحيم ولا مكان لهم بيننا إلى الأبد .
لقد قدر الله لمصر كنانته فى أرضه أن تنهض من رقدتها بعد أن عانت من مرض عضال أوشكت معه على الرحيل ، فكتب  الله لها عمرا جديدا ، إننا جمعيا سنذهب وسيبقى هذا الوطن خالدا ، إنها طبيعة الخلق وأقدار الحياة ، ولكن سنترك على الأرض شهادات  تتصدر صفحات جديدة من تاريخ النضال الوطنى المصرى من صنع أيدينا أذهلنا به العالم ، مخطوطا بدماء ابنائها الذين استشهدوا فداء لهذا الوطن .. أسطورة جديدة تعكس معنى الٌإقدام والشجاعة تأخذ فى طريقا كل من سولت له نفسه خيانة هذا الوطن لعرض دنيوى زائل ومات على دين الملك ، ستتوارى معه محاولاته للزج بالوطن فى غياهب الجب ومنها إلى مزبلة التاريخ ليبقى علامة للتخلف والظلم والجور سرعان ماتطمسها جحافل الأيام وماقسوتها ، ليبقى المعدن الأصيل تراثا حقيقيا موثقا بأسمى معانى الحب والتسامح والترفع والوطنية وسنكون نحن بإذن الله جزءا منه ، ليبقى السؤال ماذا سيكتب التاريخ عنا وكيف سيراه أولادنا وأحفادنا وأولاد أحفادنا من بعدنا ؟ .

مع خالص تحياتى وتقديرى :عصام                                                          

                  القاهرة فى : 12 من أغسطس 2013











الاثنين، 21 مايو 2012

وستبقى مصر للمصريين


ينجدل تاريخ ثورة الخامس والعشرين من يناير منذ بدايتها وحتى الأن حول بؤرة أساسية تتصف بالشتات وتبيان حال المصريين وشرذمتهم ، حيث جاءت البداية متماسكة ، فحققت ما يشبه المعجزة فى أيام معدودات .. كان أمل التغيير مفقودا لسنوات طال مداها أجيالا .. ظل يراود المصريين ويداعب أحلامهم ، الحلم أخيرا تحقق وجاء بالتغيير .. تحقق الحلم على أكتاف الشهداء والمصابين الذين هانت عليهم حياتهم فى سبيل الوطن فقدموها ثمنا لوضع حد لمعاناته وما واجهه من مشكلات تعمقت واستفحلت وجابت مصر طولا وعرضا ، مشكلات أثقلت كاهل مصر ووهنت بتطلعاتها نحو مسيرة التقدم لمستقبل أفضل .



لقد كان انحياز الجيش إلى جانب الشعب فى بادئ الأمر هو العامل الحاسم فى إنجاح الثورة وإعلاء مبادئها غير المعلنة إلا من غضبة المطالبة برحيل النظام الحاكم وعاشت مصر أياما عصيبة حتى لاحت فى الأفق تباشير النصر بقرار التنحى وضجت الدنيا فرحا بنشوة النصر ، الثورة لازالت فى الميدان .. الثورة نجحت بلا قائد ، وبلا أهداف محددة ، الوضع ينذر ببدايات اختلاف فى الرؤى ثم مالبثت أن تباينت الاتجاهات حول مطالب الثوار ومبادئهم الأساسية فكان تدخل التيارات المختلفة والأحزاب المقوضة وشباب مختلف الفكر والأهواء أطلق على نفسه نشطاء سياسيين وشباب ائتلاف الثورة والواقع كان يقول غير ذلك لأنه لو كان هناك ائتلاف لاجتمعوا على كلمة سواء ولتحققت الأهداف التى قامت الثورة من أجلها وماكانت للصراعات أن تضرم وتشعل التنافسات التى تمحورت سريعا وكونت بؤرة الفتن التى مالبثت أن استشرت فى تحد كبير لكافة القوى المصرية على اختلافها من جانب ، وبينها وبين المؤسسة العسكرية الموكول إليها حكم البلاد من جانب أخر ، بيد أن تعتيم الموقف والتراخى من جانب المجلس العسكرى فى تنفيذ الخطوط العريضة للمبادئ الأساسية التى طالب بها الثوار وأتفق عليها أخيرا على مدى الشهور المتتالية والتى من أهمها على الإطلاق سرعة انتهاء الفترة الانتقالية لتسليم السلطة من المجلس العسكرى لحكومة مدنية منتخبة ، كان سببا مباشرا فى توالى المليونيات المجتمعة فى الميادين .. فى تظاهرات ضمت كل الأطياف من جماهير شعب مصر وليست بعض هذه التيارات فحسب ، حيث استطاعت الثورة أن تؤلف بينها شكلا من حيث إجماعهم على كراهية حكم تلك الطبقة التى عاثت فى البلاد فسادا وتخريبا ، وانفردت بالسلطة واتخاذ القرار وأهدرت الثروات ونشرت المفاسد مما ساعد على صعوبة ظروف الحياة فى ظل غياب العدل الاجتماعى وجمود المشاركة المجتمعية ولاسيما السياسية منها وإضعاف الأحزاب وتوجيه اقتصاد البلد لمصلحة فئة محدودة من رجال الاعمال الذين عمدوا على التفريط فى الأصول وتبديدها ، وعطلت عمل السلطتين التشريعية والقضائية فكانت القوانين الرثة المرقعة فى غيبة الآليات الرقابية ، وعدم الالتزام بأحكام القضاء ، فضلا عن الاهمال الجسيم الذى تكبدته القطاعات الحيوية فى الدولة : الصناعية والزراعية والتجارية . ولكن فكرا لم يكن كذلك فبالرغم من هذه المكاسب العديدة التى تحققت لم تستطع بلورة أهداف محددة قابلة للتطويع ولها آلية للتنفيذ ، ساعد على ذلك ضبابية موقف المجلس العسكرى فى حياديته فى التعامل مع كل هذه الطبقات رغم إصراره على التأكيد بالالتزام بها فى كل مناسبة بداع ودون داع ، مما أثار حفيظة بعض الشكوك بأن المجلس العسكرى سيظل على انحيازه للقوى الثورية ، باستناد أنه يمثل جزءا من النخبة الحاكمة التى طالبت الثورة بعزلهم ، إذ كيف يمكن أن يتنكر بين يوم وليلة لمن كان ينتمى إليهم ؟!. ولكن بعد انقضاء مايزيد على سنة منذ قيام ثورة يناير كان كافيا لإدراك أن هذا لم يكن شكا فى الواقع بل حقيقة مؤكدة .. حقيقة تقول لو كانت هناك شفافية لأمكن للمجلس العسكرى الإسراع بتشكيل مجلس رئاسى يستفتى عليه الشعب لفترة انتقالية ولفترة محددة ، يتم خلالها تشكيل الجمعية التأسيسية لعمل دستور منزه عن كل التيارات التى بدت متناحرة ، بعدها يتم تشكيل كل مؤسسات الدولة محققة مبدأ المساواة والعدل واحترام الشرعية وتطبيق القانون فتبدأ باختيار رئيس للدولة وفقا للدستور الجديد الذى سيأتى باستفتاء شعبى عام ، حقيقة أكدتها الأيام بتوالى مسلسل الاشتباكات واستخدام العنف بمنتهى القسوة فى قتل الأبرياء ، بدءا من أحداث "أطفيح" و"إمبابة" مرورا بأحداث "مسرح البالون" و"ماسبيرو" ، وصولا لأحداث شارع "محمد محمود" والأحداث الدامية أمام مجلس الوزراء وحرق المجمع العلمى عمدا ، ثم أسوأ كارثة فى تاريخ الرياضة المصرية والتى أعقبت مباراة ناديى الأهلى والمصرى باستاد بورسعيد وقتل أربعة وسبعين شهيدا من التراس النادى الأهلى فى أقل من خمس دقائق والتى تجدد على أثرها أحداث وزارة الداخلية من جديد ووقوع المزيد والمزيد من الضحايا ، وزد على ذلك شكل المحاكمات الوهمية للرئيس المخلوع  والملابسات التى واكبتها والتدليس الذى شابه إجراءاتها ، والإمعان فى الاستهتار بمشاعر الجماهير ولاسيما أهالى الشهداء والمصابين ، ومازالت الفجوة تتسع وتتسع كل يوم وأصبح اختلاف التوجهات والرؤى سمة اللحظة ، فجاء الصدام علنا فى أحداث العباسية الدامية بين التيار الإسلامى من جهة وبين المجلس العسكرى من جهة أخرى ، مما يعطى انطباعا كافيا لاكتشاف أن المجلس العسكرى لا يمكن أن يكون محايدا، ولا التيار الإسلامى ومعهم من حازوا على ثقة الشعب أيضا أن يكونوا على مستوى المسئولية ، واكتشاف أن مصر لو كانت فى حاجة ماسة إلى إنقاذ، فإنه لا يمكن أن يتم لا عن طريق هذه النخبة المتأصلة من نفس الطبقة المنتمية لفسداء مصر وطغاها ولا عن طريق ممن ركبوا الثورة وظهرت نياتهم فى استئثارهم للسلطة دون تقديم حلول ناجعة .

والأمر كذلك أيضا بالنسبة للمتظاهرين الذين اختلفت انتماءاتهم بين أحزاب شتى كل ذلك كان له تأثيره المباشر عما يجرى فى الشارع المصرى من تنافس بدأ منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية وما صاحب ذلك من حملات إعلامية منظمة وشرسة ، جعلت الأمور مثل النار الراكضة تحت الرماد تطل بألسنتها بين الحين والحين فتحرق كل ماحولها ، فمتى كانت الأمور تهدأ نسبيا أتى إلينا حدث يقضى على الشعور بالأمان والاحساس بالرضا للغالبية الصامتة من الشعب المصرى.


والفكرة هنا أنه مهما كان  توصيف ما يشكو منه الشأن المصرى وما نريد تغييره بات أمرا مهما، إلا أن الأهم ـــ وبعد ضياع كل هذا الوقت المهدر التى ترتب عليه أثار اقتصادية منهارة وعميقة أدت إلى  وجود عشرة ملايين عطالة ، وهروب الاستثمارات الأجنبية ، وتوقف السياحة وتراجع الاحتياطى النقدى إلى أكثر من ترليون دولار ديون داخلية وخارجية ـــ هو الاتفاق على وضع يصل بمصر بر الأمان وعلى نحو يرضى ما تريده كل التيارات الموجودة ومتوافقا مع نبض جماهير شعب مصر الصامتة والمؤثرة فى التحول الديمقراطى الذى ظهر جليا فى انتخابات مجلس الشعب بمراحلها الثلاث هذا العام . وكلما كانت هناك محاولات لتشخيص ما يريده الشعب وبلورته إلى فكر ، تتولد فجوة عميقة بين اختلالات ألية تنفيذ هذا الفكر نتيجة تداعيات الموقف  والوصول به إلى نتائج مرضية ، ربما كان مرجعيته يعود لاتساع مساحة عدم الثقة بين كل الأطراف ، وتعدد المراكز الاقتصادية للمشاركين فى الثورة، وتعدد صور القهر الاجتماعى والسياسى وتهميشهم الذى وصل ذروته فى انتخابات مجلس الشعب  لعام 2010، وسوء نية بعض القوى ، والتحالفات الخفية لإضعاف البعض الأخر ، وتباين الفكر المنهجى للأحزاب الوليدة وعدم مصادفتها حلول سريعة تعطيها مصداقية لدى الشارع المصرى ، وجود أجندات أجنبية استطاعت أن تجذب عددا غير قليل من حركات الشباب ، وغيرها وغيرها من أسباب أعتقد أنها  صعبت من مهمة بلورة أهداف محددة لهم جميعا ، مما أدى كل هذا إلى اهتزاز الثقة  بعنف بين الجيش والشعب متمثلا فى برلمانه الذى بدا هو الأخر مترهلا ومفتقدا لأبسط آليات العمل البرلمانى لغياب الخبرة ووجود خلل فى بقية مؤسسات الدولة مما انعكس أثره على إحداث نوع من التوازن المرن القائم على الصالح العام  ، ناهيك على اختلاف أيدلوجيات ومذاهب فكر المصريين أنفسهم وتداخلها فى تحديد ماهية الحرية الثورية واختلاطها بمفهوم الديمقراطية حتى فى أبسط تعاريفها : التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثرية الذى يؤكد على حماية حقوق الأفراد والأقليات ، كل ذلك انعكس على سير الثورة التى بدأت سلمية ثم بعد ذلك مالت للعنف وبشدة على فترات ، فبالرغم من نجاح أولى خطواتها وما أحدثته من تغيير في المفاهيم والقيم على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية  إلا أن وجهات النظر اختلفت والاتجاهات تعددت وتباينت ومع توالى الأيام وتداولها لم نلحظ ثمة تغيير سوى مسميات الأشخاص فقط ، ومن هنا يمكن القول أن الذين يتبارون اليوم على رسم مستقبل مصر لا يختلفون عن سابقيهم  إلا في التفاصيل ومتطلبات المرحلة وتحدياتها ، وإن كان منهم من يتهم عموم الشعب المصرى بالسلبية وعدم المشاركة ومتابعة الأحداث بالجلوس خلف الشاشات لدرجة وصفهم بحزب "الكنبة" إلا أن الحقيقة تقول أن الجماهير الغفيرة التى لم تنزح لميدان التحرير ولم تشارك إخوانهم فى التظاهرات بكل مستوياتها هى من قامت بالمشاركة الفاعلة بخروجها ـــ ولأول مرة فى سابقة تستحق الدراسة ـــ لتدلى بأصواتها في الاستفتاء على الإعلان الدستورى ثم انتخابات مجلسى الشعب والشورى الأخيرة واختيار النواب وهى من رفضت العلمانيين المرتبطين بالغرب ونبذت الجماعات والأفراد التى تاجرت بدم الشهداء وانتسبوا للثورة باسم حقوق الإنسان وراحوا يتبارون فى الظهور بمختلف الأجهزة الإعلامية الموجهة والمفتقدة لأبسط الأصول المهنية ، وهم أيضا من يتابعون عن كثب كل مايجرى فى مجلس الشعب يوميا فى انتظار تحقيق رؤية ربما لايستطيع هذا المجلس أن يحقق ولو جزء من طموحاتها . إن عموم الشعب المصرى هم صناع التاريخ وصناع الثورة الحقيقيين ، وهم الذين أختاروا من يريدون ، وإن كان التيار الإسلامى جاء باختيار شعبى حقيقى ، فإن الشعب المصرى لقادر أن يستبدلهم بغيرهم حال فشلهم ، ولكن هذا معقود على مدى استيعابنا للديمقراطية ومفهوم الحرية المقيدة المرتبطة بالعدالة الاجتماعية لا غير المسئولة ومعنى إرادة حرة موقوفة على مبادئ أساسية تحقق دولة العدل وتكون قادرة على تقرير مصير مستقبل مصر ، إذن فالأمر موقوف على إرادة هذا الشعب بهذه الكيفية فى وضع دستور دائم يتواءم مع متطلبات العصر واختيار رئيس يستطيع قيادة مصر لبر الأمان وإن كانت البداية لاتتطلب سوى التنسيق بين جميع القوى الوطنية المنصفة والواعية دون إغفال لدورالشارع المصرى .. صوت الجماهير، بحيث نعلو على كل الصغائر التى أظهرتها التجربة ونسمو فوق خلافاتنا الأساسية والفرعية الناشئة من الاختلالات السياسية الناجمة عن اختلاف الرؤى لكل القوى السياسية باختلاف انتماءاتهم وعن تراكمات موقف المجلس العسكرى فى الشهور الفائتة بعمل منظومة قيمية أخلاقية يتم من خلالها الإتفاق على ميثاق شرف أخلاقى لوضع حد للصراع الدائر بضراوة مابين البرلمان والمجلس العسكرى من جهة وبينه وبين السلطتين التنفيذية والقضائية من جهة أخرى ويتم من خلالها أيضا وضع استراتيجية منهجية على أسس سليمة ومتينة مرتبة وفقا للأولويات والتحديات التى يمكن أن تواجه مصر من مشكلات وما أكثرها .
                           
  مع خالص تحياتى : عصام

                                     القاهرة فى مايو 2012