السبت، 5 أكتوبر 2013

إطلالة على ملحمة أكتوبر




كنت لأجد مبررا أن أكتب بعضا من الكلمات عن حقيقة واضحة وضوح الشمس ، مازالت تتصدر الصفحات الناصعة للتاريخ المشرف لمصر ، وكنت أظن أنها لا تغرب أبدا ، ولكن بعد مرور هذه الفترات الطويلة العصيبة ، أصبحت غائبة ، نسيها الناس أو تناستها ، وطمسها رياح التغيير المر ، واعترتها عوامل هدم كثيرة ، أخرتنا ونالت من تاريخنا ، أهمها سياسة الاستحواذ وأطماع الحكم ، مما دفعنى دفعا لكتابتها حين بلغت حالة من الاستياء والإحباط الشديدين أغلقتا كل قدراتى على مواصلة بث كل بواعث الأمل بداخلى التى طالما أسرفت فى إدعائها. فقررت أن أقف عن صمتى لأصرخ خلاص مايدور حولى من حال تحول لنقيضه فى وسط أجواء مشحونة ومنتفضة تتحول مابين بلبلة من الأفكار المتشابكة والأيديولوجيات التى تضيف إلى الكوارث ردة فى الشعور العام ، وانهزامية لدى وطنية البعض من شباب مصر المغيبين ، التى كان من أهم نتائجها أن أصبحت ظاهرة تفشت بمنتهى العنف خاصة بعد انتفاضة الملايين يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 بالإنفلات من قيد القهر والظلم والجور وأكدته فى يوم الـثلاثين من يونيو 2013 بالتخلص من براثن الخونة وخوارج أخر الزمان ، حتى أفاقت من زمن ألاديمقراطية وتخلصت من كهنوت الإختباء والتخفى وأبقت على معنى الوطنية وأكدت عزيمة الرجال التى أذهلت العالم كله يوم السادس من أكتوبر 1973، رغم وجود قلة مازالت تعبس فى ظلام الجهل وتطمس الحقائق عن عمد ، فهم لايعرفون ولايريدون أن يعرفوا ، يريدون فقط أن تعود مصر دائما للوراء . لكن مصر كانت وستظل قوية بقواتها المسلحة رغم كيدهم ، فهى مكمن القوة والقادرة على صنع الرجال ، وهاهم أبطال مجد أكتوبر صناع تاريخنا المشرف .. صناع النصر والشهادة ، الأن هم حماة إرادة الجماهير وشرعيته فى عدم تقبل من يتآمر عليها أو يفكر فى طمس تاريخها العريق ، هاهم من أخرجوا مصر من النفق المظلم ، الذى لايعلم مداه سوى الله سبحانه وتعالى ، إرادتهم  كانت فوق كل الاختلافات : الدينية والمذهبية والعصبية والطبقية والجنسية والسياسية ، فاستعادوا للوطن كرامته وهيبته من الضياع المحكم والمطبق ، إنها الحكمة والتعقل لرجال قواتنا المسلحة فى وقوفهم الكامل وانحيازهم لإرادة شعبهم لأنهم جزء أصيل منه ، وهذه هى مواقفهم دائما منذ عهد مينا حتى سيادة الشعب الأن ، ألم تكن مثالا للوطنية والبسالة والشجاعة , ألم تكن مثالا على روعة الفداء وإنكار الذات ، إننى أتيه فرحا وفخرا بما صنعته قواتنا المسلحة ، فهم فقط من يريدون أن تمضى مصر ودائما قُدما للأمام ، ومن عبور قناة السويس عام 1973 لعبور وطن 2013 ، يسطر التاريخ لهؤلاء الأبطال حروف من نور تروى كفاح شعب ناضل ولايزال .. شعب لايعرف المستحيلَ ، ولايرتضى بالخلود بديلا ، هكذا علمنا التاريخ وأكدته الشواهد والأيام .




كنت أحلل لنفسى أسباب صمتى بدعوى تغير الزمن ، فبمرور حقبة كبيرة على نصر أكتوبر استجدت بعض المتغيرات والتداعيات التى خالفت الملامح المصرية أدخلتنا فى عراء تاريخى لغياب هذه الروح والدخول فى رحاب عالم تداخلت فيه أشياء كثيرة أهمها من وجهة نظرى البث التكنولوجى الموجه والمحفوف بالمخاطر . هذا الجو العام الذى خلق نوعا من بلبلة الأفكار من جراء الزخم المتداخل من إختلاف الآراء والأصوات المرتفعة التى تميل ميلا شديدا للعنف واستخدام القوة ، هى التى غلبت العبث فى التصرفات والتعثر في فهم الحقائق ووضوح الرؤية والاستقطاب الذى ساد روح الخطاب لدى الشباب والذى لاقى رواجا مقبولا لدى المثقفين منهم ، وهذه كارثة ، من هنا جاءت حالة الانحسار لعدم وجود القيادة الملهمة أو الداعمة أو المولدة للروح التى كانت موجودة لدى شباب العبور فى أكتوبر 1973 والتى ترتبت عليها حالة الانكسار التى أصبحنا نعيشها اليوم ونعانى منها لتفسخ الارتباط بماضينا ، بل والبعد عن تراثنا وموروثاتنا وعاداتنا وتقاليدنا ، وإزاء هذا الواقع المرير الذى جاء نتيجة تراكمات عديدة آثرت السكوت ، إذ تاهت الكلمات منى ، ولم أجد الدافع للبحث عنها،  قناعة بوجود فجوة كبيرة ومتسعة أفضت بعدم الإتزان فى فكر البعض وأدت إلى إختلاف الرؤى والاتجاهات مابين مناهض ومناقض مما أوجد بؤرة خطيرة فى نفوس المصريين عمقت الفارق الكبير مابين ماض كان مفعما بروح التضحية والفداء ، وحاضر وقع فى فج عميق يسوده حالة من اللامبالاة يستنكر روح الانتماء ويعظم بل ويروج لثقافات أجنبية دخيلة فى شتى المناحى لمجرد الهوس بها وماتنطوى عليه من تقدم تقنى وعولمة الفكر ، للأسف وقع معظم شبابنا أسيرا لها طواعية ، وأوجد فى نفوس أخرين فكرا مناهضا يعلمون مصدره وخطورته تعاظم لعدم وضوح الرؤية .. فكرا دينيا فاشيا متطرفا من تيارات إسلامية معقدة ومتشابكة خلطت مابين أمور الدنيا والأخرة وبعدت كل البعد عن دولة رسول الله منهاجا وشرعة ، ، فأصبحنا أمام خيارين كلاهما مر ، وهذا دفع بطبيعة الحال إلى الانفصام والتعالى عن حب الوطن لدى الشخصية المصرية بصفة عامة والشباب بصفة خاصة بدعوى أن مصر لم تقدم شيئا لأبنائها حتى يكون لديهم الدافع للانتماء لها ، مما أوجد هذا الشرخ الذى أخذ فى التعمق مع تداول الأيام والسنين ، وهذا جعلنى أتمنى لو أن الزمان يعود بنا لأيام ملحمة العزة والنصر ، حتى نعيش اللحظة الفارقة من الزمن الجميل الذى كان فيه الرجال رجالا ، وكان الانتماء وحب مصر يملأ البسيطة من أرضها ، الأرض الفيروزية الحبيبة الغالية التى طالما ارتوت بالدماء الذكية لابنائها المخلصين ، حتى جاء يوم الثلاثين من يونيو 2013 يوم استرداد العزة والكرامة .


إن يوم السادس من أكتوبر من هذا العام جاء فى ظروف مغايرة ، أيقظتنى من ثباتى العميق حتى وجدت الكلام يتفجر منى ، واسمحوا لى بالعودة للوراء لهذا الزمن الذى لازلنا نرتوى من نهر عطائه المتدفق وبالتحديد مع الساعة الثانية والنصف بعد ظهر السادس من أكتوبر منذ عام الف وتسعمائة وثلاثة وسبعين ، ومع الطلقات الأولى لعبور قواتنا المسلحة للضفة الشرقية من قناة السويس وعبورخط بارليف الحصين ، عندئذ تغير كل شيئ على أرض مصر  ، إنه الميلاد الحقيقى للسلوك والتصرفات والاحساس بالمسئولية .. ميلاد جديد للحب وروح التعاون ، وتجسيد معنى التضحية والفداء ، ودعوة صريحة للعمل المتواصل ، إنه الاستثمار الحقيقى لروح ومجد أكتوبر الذى كنا قد بعدنا عنه كثيرا ، حتى أصبحنا فى حاجة لتعظيم الشعور بقيمة خضوب الأرض من المساحات الشاسعة من الرمال الصفراء التى تحولت إلى حمراء على مدار تاريخها .. تلك الأرض الغالية التى تربعت عليها سماء مصر الصافية برجالها ونسائها وشيوخها وأطفالها ، الأن تصرخ من يصونها بعد أن نالتها يد الخسة والغدر والخيانة من بعض ابنائها الخونة والأفاقين والمرتزقة .. إن مصر الأن تريد من ابنائها الحقيقيين أن يتماسكوا ويترابطوا وأن يهتفوا لها  بنداء الحق ( الله أكبر ) من جديد .. تريد من ينفض عنها غبار السنين الطويلة من التردى والبعد عن روح الوطنية والشعور بالانتماء .. تريد من يشعرها بالأمان من أجيال غفت وأجيال تناست وتعاقبت على جيل أكتوبر العظيم .. تريد أجيالا تضيف لمنظومة النصر ولاتنتقص منه ، تقدم النفيث والغالى .. تقدم الروح والدم  فداء لها مثلما فعل جيل أكتوبر ، صحيح أن الوقت كان يبعدنا أو يلهينا ولكنه لاينسينا أن مصر هى مصر ، وستبقى دائما مصر ، فهى كانت ترى أبناءها دوما مستعدين .. متأهبين .. خاشعين .. لايخافون الطلقات وهى تقترب من صدورهم ، إنها الأن تواقة .. تريد عطاء من ابنائها الذين يقدرون ترابها الغالى ، لأنه أغلى ماتقدمه لهم ، قد فعلها جيل أكتوبر شغفا وحبا حينما استبقوا جنودا فى قواتها المسلحة بعد انتهاء مدة خدمتهم الالزامية سنوات وسنوات وهم فى عمر الزهور فتحوا صدورهم الشامخة يتلقون الطلقات حتى نفدت راح فيها من راح ، وذهب فيها من ذهب ليفتحوا برفق كل أبواب الأمل حتى يطل من ورائها أطفال مصر ليروا المستقبل بعيون جديدة ، وهاهم أصبحوا ملايين وملايين من الشباب ، ولكنهم بدلا من أن يواصلوا منظومة الكفاح والعطاء ذهب بعضهم  لينالوا من إخوانهم فى الدين والوطن ، والبعض الأخر راح ضحية الإعلام الموجه والحالة الاقتصادية المتردية والعولمة وخان منهم من خان وتآمر منهم من تآمر مما روج وبث فى نفوسهم الأنانية والفردية لطمس معالم الانتماء فيها ، وهذا ماوضعنى فى حيرة حينما تأملت الشخصية المصرية وطبيعة تصرفاتها وردود أفعالها وخاصة فى وقت الشدة والمحنة والفتنة كأيامنا هذه ، وضع يفرض نفس التساؤل لماذا تبدد بل واختفى كل ماكان يتحلى به الجيل العظيم من مزايا  .. جيل أكتوبرالذى حارب وحقق الانتصار عن جسارة واستبسال ليخرج للعالم عظمة الإنسان المصرى ، أين هو الأن ؟  لماذا لم يحافظ على انجازاته ؟ لماذا ذهب ولم يعد ؟ هل يرجع هذا لتغير معايير الحياة وتبدل كل أشكالها وممارساتها من رؤى وتوجهات ؟ أم ماذا ؟ اسئلة عديدة تفرض نفسها ولكن لاتجد إجابة ، مفترض أن المسئولية اليوم أثقل لأن تحدياتها أصبحت أكبر والنصر لايحميه إلا مزيدا من الانتصارات ، والمحافظة على البطولات يستوجب مزيدا من العمل .. وأنه ليس أمامنا أية خيارات أخرى ، لقد نفد كل ماكان متاحا بعد تشرذمنا ومواجهة بعضنا بعضا ، ونسينا أن الكل سواء فى منظومة حب الوطن ، إنه لاسبيل أمامنا سوى بناء مصر ومواجهة تحديات المستقبل وتأمين الانتفاضات الشعبية التى هبت رياحها من جديد لتجدد عطاء المصريين ، كى نضيف رصيدا على انجازات التاريخ المصرى الناصع ولايتأتى ذلك إلا بسلامة العقل وقوة العلم والتكنولوجيا الخلاقة وبأفكار مبتكرة جديدة تقدم حلولا ناجزة لقضايا متراكمة مستعصية ‏وقلوب تحب هذا الوطن حبا حقيقيا لابالشعارات ,‏ وليس بالضرورة أن تكون المواجهات بالدخول فى غمار حروب عسكرية جديدة ، بل مواجهة  التحديات بالتحديات نرفع بها عن كاهل بلدنا ماأثقله وخاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية منها ، إنه التحدى الجديد ‏.


ماأحوجنا اليوم إلي انتصارات حياتية في معارك التنمية والتكنولوجيا والتعليم والإدارة ومكافحة الفساد وغيرها من معارك النهوض والتقدم‏ ، فالحرب العسكرية من أجل العقيدة والشرف والعرض ، حرب معلنة وصريحة ، أما حروب التنمية تتم بتوجهات أخرى منظمة وشرسة ، غير معلنة ومجهولة المصدر ، لانعرف من أين تأتى ؟ .. إنها الحرب الاقتصادية التى جاءت متوائمة مع العولمة ، ونحن نعيش فى عالم تضمه سلة واحدة ، البقاء فيها للأقوى ، ونحن لم نكن الأقوى ولا الأفضل ، ولكن هناك حقيقة ينبغى ألا تغيب عن أذهاننا أو ضمائرنا كلما أخذتنا الحياة أو جرفتنا للمناطق البعيدة ، أن قوتنا فى وحدتنا ، وأنها كانت هى القاعدة الاستراتيجية ذات القوة الهائلة التى انطلقت منها شرارة أكتوبر والتى كشفت معها جوهرنا الأصيل . إننا نريد أن نفصل هذا المزج الغليظ حتى يظل شباب مصر متدفقا مع كل قطرات الدم التى اندفعت من الصدور ولم تمت ، وروت الأرض ولم تجف ، إنها دورة متجددة مثل الشمس التى تغيب وتشرق من جديد ، ومثل الأرض الحبيبة الطيبة التى يكسوها اللون الأسمر ثم تخضر ، لقد اختزلت مصر كل أحلامها وكنوزها فى وجوه شبابها السمر الشداد على مدار السنين ، الأن تحلم بعودتهم فى أحضانها من جديد ، اختزنته كى تدفع به لو فكر أو حاول كائن من كان أن يمس كرامتها وعزة ابنائها ، ولم تختزنه كى يطمع فيها طامع أو يدنسها خائن أو يتآمر عليها عميل من أجل عرض زائل أو دنيا يصيبها ، فهل نحن قادرون على إعادة تأهيل أنفسنا كى نتحمل المسئولية من جديد ، هل فى قدراتنا تكرار تحقيق انتصارات أكتوبر ، فى كل شيئ بما يتفق مع الشرعية الحقيقية المستمدة من الشعب وللشعب وتعمل على استقراره والعيش فى سلام ؟ ، إن نصر أكتوبر لازال علامة بارزة فى تاريخ أمتنا العربية ، تفوح ذكراه كل عام ، فنستعيد منه ذكريات العزة والكرامة والفخار . إن الروح العظيمة التى حركتنا فى أكتوبر لقادرة أن تحركنا اليوم وغدا ، قادرة على رسم الطريق ، وقادرة على إنتاج مسببات انتصار أكتوبر كى نحول هذا الانتصار إلى قوة ملهمة نواجه بها تحديات واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي  مع تحمل ابناء مصر المسئولية بإيجابية ــ وأعنى شبابها ــ وتقديرهم العميق لقيمة ترابها واستيعابهم لمعنى الوفاء والتضحية والفداء .. معنى العزة والعيش بكرامة ، وأخيرا التغنى بحب مصر لا بالهتافات وحمل الأعلام فقط ، ولكن بصدق النوايا والعمل الجاد .
       مع خالص تحياتى : عصام                                                       

القاهرة فى 4 من أكتوبر 2013
                                                                                                  








        

هناك تعليق واحد:

  1. نصر أكتوبر ، هى العزة والكرامة المصرية ، أتمنى مشاركتى كلماتى ، فهى نبضات قلب تنتفض حبا لتراب وطننا المقدس ، مع خالص تحياتى لقواتنا المسلحة فى يوم عيدهم

    ردحذف